فصل: تفسير الآيات (67- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (61):

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا. فقال الجُلاس بن سُوَيْد منهم: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فننكر ما قلنا، ونحلف فيصدقنا بما نقول، فإنما محمد أُذُنٌ أي: أذن سامعة، يقال: فلان أُذُنٌ وأُذْنَةٌ على وزن فُعْلَة إذا كان يسمع كل ما قيل له ويقبله. وأصله من أذن يأذن أذنا أي: استمع. وقيل: هو أذن أي: ذو أذن سامعة.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث، وكان رجلا أذلم، ثائر شعر الرأس، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوَّه الخلقة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث»، وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن فمن حدَّثه شيئًا صدقه، فنقول ما شئنا، ثم نأتيه ونحلف بالله فيصدقنا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} قرأه العامة بالإضافة، أي: مستمع خير وصلاح لكم، لا مستمع شر وفساد. وقرأ الأعمش والبُرْجُمِيّ عن أبي بكر: {أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} مرفوعين منونين، يعني: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم، ثم كذبهم فقال: {يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ} أي: لا بل يؤمن بالله، {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: يصدق المؤمنين ويقبل منهم لا من المنافقين. يقال: أمنته وأمنت له بمعنى صدقته. {وَرَحْمَةٌ} قرأ حمزة: {ورحمة} بالخفض على معنى أذن خير لكم، وأذن رحمة، وقرأ الآخرون: {ورحمة} بالرفع، أي: هو أذن خير، وهو رحمة {لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} لأنه كان سبب إيمان المؤمنين. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

.تفسير الآيات (62- 64):

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} قال قتادة والسدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فحقروه وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعاهم وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا أن عامرا كذاب. وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل عامر يدعو ويقول: اللهم صدِّق الصادق وكذِّب الكاذب فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون إليه ويحلفون، فأنزل الله تعالى هذه الآية {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يخالف الله ورسوله أن يكونوا في جانب واحد من الله ورسوله، {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أي: الفضيحة العظيمة.
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} أي: يخشى المنافقون، {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي: تنزل على المؤمنين، {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين، كانوا يقولون فيما بينهم ويُسرون ويخافون الفضيحة بنزول القرآن في شأنهم.
قال قتادة: هذه السورة تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أنزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة للمؤمنين، لئلا يعير بعضهم بعضا، لأن أولادهم كانوا مؤمنين.
{قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} مظهر {مَا تَحْذَرُونَ}.
قال ابن كيسان: نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين، وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه، وتنكروا له في ليلة مظلمة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدَّروا، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته، وحذيفة يسوق به، فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحاها، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنهم فلان وفلان حتى عدَّهم كلهم، فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب. لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيناهم الله بالدُّبَيْلَة».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عبادة قال: قلنا لعمار: أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهدا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في أمتي- قال شعبة وأحسبه قال: حدثني حذيفة قال في أمتي- اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة، سراج من النار يظهر في أكتافهم، حتى ينجم من صدورهم».

.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية، وسبب نزول هذه الآية على ما قال الكلبي ومقاتل وقتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والثالث يضحك.
قيل: كانوا يقولون: إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك!
وقيل كانوا يقولون: إن محمدا يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ فقال: احبسوا علي الركب، فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث واللعب.
قال عمر فلقد رأيت عبد الله بن أبي يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه.
قوله تعالى: {قُلْ} أي: قل يا محمد {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ} كتابه، {وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.

.تفسير الآية رقم (66):

{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}
{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فإن قيل: كيف قال: كفرتم بعد إيمانكم، وهم لم يكونوا مؤمنين؟
قيل: معناه:أظهرتم الكفر بعدما أظهرتم الإيمان.
{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي: نتب على طائفة منكم، وأراد بالطائفة واحدًا، {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} بالاستهزاء. قرأ عاصم: {نَعْفُ} بالنون وفتحها وضم الفاء، {نُعَذِّب} بالنون وكسر الذال، {طَائِفَةً} نصب. وقرأ الآخرون: {يُعْفَ} بالياء وضمها وفتح الفاء، {تُعَذَّب} بالتاء وفتح الذال، {طائفٌ} رفعٌ على غير تسمية الفاعل.
وقال محمد بن إسحاق: الذي عفا عنه رجلٌ واحد، هو مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض، وكان يمشي مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أُعْنَى بها تقشعر الجلود منها، وتجب منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأُصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا عُرِفَ مصرعُه غيره.

.تفسير الآيات (67- 72):

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: هم على دين واحد. وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاق، {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} بالشرك والمعصية، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} أي عن الإيمان والطاعة، {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: يمسكونها عن الصدقة والإنفاق في سبيل الله ولا يبسطونها بخير، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} تركوا طاعة الله، فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا، ومن رحمته في الآخرة، وتركهم في عذابه، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} كافيتهم جزاء على كفرهم، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} أبعدهم من رحمته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائم.
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول من أمر الله، فلعنتم كما لعنوا {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} بطشا ومنعة، {وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} فتمتعوا أو انتفعوا بخلاقهم؛ بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا به عوضا عن الآخرة، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} أيها الكفار والمنافقون، {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} وسلكتم سبيلهم، {وَخُضْتُم} في الباطل والكذب على الله تعالى، وتكذيب رسله، وبالاستهزاء بالمؤمنين، {كَالَّذِي خَاضُوا} أي: كما خاضوا. وقيل: كالذي يعني كالذين خاضوا، وذلك أن الذي اسم ناقص، مثل ما ومن يعبر به عن الواحد والجميع، نظيره قوله تعالى: {كمثل الذي استوقد نارا} ثم قال: {ذهب الله بنورهم} [البقرة- 17].
{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» وفي رواية أبي هريرة: «فهلِ الناسُ إلا هُمْ»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سَمْتًا وَهَدْيًا تتبعون عملهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ غير أني لا أدري أتعبدون العِجْلَ أم لا؟».
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} يعني المنافقين، {نَبَأُ} خبر، {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} حين عصوا رُسلنا، وخالفوا أمرنا كيف عذبناهم وأهلكناهم. ثم ذكرهم، فقال: {قَوْمِ نُوحٍ} أهلكوا بالطوفان، {وَعَاد} أهلكوا بالريح {وَثَمُود} بالرجفة، {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} بسلب النعمة وهلاك نمرود، {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} يعني قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة، {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} المنقلبات التي جعلنا عاليها سافلها وهم قوم لوط، {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فكذَّبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفار، فاحذروا تعجيل النقمة، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة. {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمان والطاعة والخير، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن الشرك والمعصية وما لا يُعرف في الشرع، {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} المفروضة، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} منازل طيبة، {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: بساتين خلد وإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به.
قال ابن مسعود: هي بُطْنَان الجنة، أي: وسطها.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصرا يقال له: عدن حوله البروج والمروج، له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الحسن: قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل.
وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جنانه على حافتيه.
وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها، محدقة بها، وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن شاء الله، وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر الأبيض.
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: رضا الله عنهم أكبر من ذلك، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك، فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».